أيام المطر.كنا نعشق تلك الأوقات التى تخلو لنا فيها الشوارع،نتحايل بشتى الطرق الطفولية، المعروفة لدى آبئنا و أمهاتـنا،كى يتروكننا و شأننا،نخرج لنداعب زخات المطر،نفرد أذرعـنا و نرفع الهامات إلى السماء،نشهق أنفاساً طويلة تسرى داخل الروح.
ساعات الليل الأولى كانت الأفضل لدينا.مطرُنا الحبيب ينادينا هذا المساء.وقفنا-نحن الثلاثة-غير بعيدٍ من منزل عبدُالله،ليس لشئ إلا تـنفيذاً لحجة الأهل المتخوفين،بعد عناء معهم للسماح لنا بالخروج.نقزقز حبات اللب الأبيض،ونقول كلاما لم نكن نعيه وقتها.
لكنى أتذكر ما حدث ذاك المساء البعيد،أتذكر ما كدر علينا صفو الليلة النادرة التى قلما إستمتعنا بها.
أحسست تلك الكف التى تهادت كلى كتفى،نظر الإثنان إلى أعلى،أدرتُ رأسى و نظرت أيضا إلى أعلى،فكان أطول منا قامةً،و أضخم حجماً،فى برهة الصمت اللحظية أخـذَنا شئ من الخوف،لِما ظهر عليه من بشاعة المنظر.
كانت ثيابه بالية،عليها طلاءٌ من الثرى،شعره كان منكوشاً.رهبة الصدمة أبقتْ أقدامَنا بلا حِراك.
لكن اللحظةَ لم تَدُم طويلاً،إسمها لحظة..
"أنا جائع،أريد شيئاً آكُله"..قال..،قال،و تنفسنا الصعداء لَمّا خاب ظننا الأول.قلت فى نفسى أن عبدُالله سيقوم بالفعل،لأنه الأقرب منا منزلاً.أما بيوتنا فكانت أبعد مما نقفُ.
أنهى عبدالله مسألة الرجل المتسول،أنهاها بطريقةٍ هى الأسهل من كل الطرق المُتوقعة،و بكلمتين اثنتين،أرخص بكثير من أى شئ،إبتعد الرجل..:"على الله".
وقفتُ مفغورَ الفيه مشدوهاً،المطر يزداد إنهماراً.قال عبدالله:"كل هذا الهرقل لا يجد أكلاً..؟!"...رد صديق الطفولة الثانى :"كلهم يقولون الكلام نفسه...كلهم محتالون،هكذا أسمع أمى تقول.."..
لم تَغِب عينى لحظة عن الرجل المتشرد،الطريق خالٍ من الناس،مصابيح النور البيضاء تثقب الظلام تحت المطر،و أنا أنظر إليه،تتأرجع ذراعيه من الوَهن،رأسه محنىٌ إلى طين الشتاء،يبتعد..يبدو من ظهره أصغر حجماً كلما اتسعت المسافة...يبتعد..حتى صار ظلاً.يختفى.
كنا نعشق تلك الأوقات التى تخلو لنا فيها الشوارع،لكن..الآن لم يَعُد مسموحا لى بذلك،إنها الذاكرة تعذبنى،تنسى كثيراً ما أريد تذَكره،و تذكر لى بإخلاصٍ ما أريد أن أنسى.أكتفى بشرب الحليب الساخن فى الشرفة،أبسط كفى،أمدها إلى الخارج قليلاً، تداعب ما يتساقط من السماء من حبات الماء اللذيذة..و لا أزال أتذكر شبح الرجل أيام المطر.